رئيس الجمعية الجزائرية للدفاع عن اللغة العربيةصفاء الثورة الجزائرية في سنواتها الثلاث الأولى
بتاريخ 9-9-1430 هـ الموضوع:
بقلم الدكتور عثمان سعدي:
قرأت المقال الذي نشره الخبر الأسبوعي في عدده 543 تحت عنوان (هل كان علي حمبلي خائنا؟)، وأشير أيضا إلى الدراسة الطويلة التي نشرها الأستاذ معمر بوضرسة في العددين 542 و543. وأكتب هذا المقال الذي دفعني لكتابته ذاك المقال وتلك الدراسة.
عندما وصل أحمد بن بلاّ للقاهرة أشهرا قبل اندلاع الثورة اتصلنا به نحن المناضلين في حزب الشعب الجزائري: أنا، ومولود قاسم ، وقاسم زدور المعروف باسم قاسم زيدون ـ الذي استشهد بوهران في الأشهر الأولى للثورة ـ وكنا الثلاثة طلبة في جامعة القاهرة. في سنة 1955 تدربت على السلاح وقررت الدخول كجندي، لكن أحمد بن بلاّ رفض دخولي قائلا: "من يحمل السلاح كثير ، أنت صاحب قلم تبقى هنا معي"، وعينني أمينا دائما لمكتب جيش التحرير بالقاهرة، مسؤولا تثقيفيا للشبان الذين يأتون للتدريب. ومر عليّ العديد من المجاهدين منهم بن أحمد المعروف بعبد الغني رحمه الله، ومنهم مصطفى هشماوي وبلال وغيرهم. واستمررت حتى سنة 1957 عندما حضرت مجموعة خلفت أحمد بن بلاّ الذي خطف بالطائرة المشهورة، ففصلوني من المكتب مع الذين عملوا مع ابن بلاّ...
أنا من دوار ثازينت الذي دفع اغلى ثمن في الثورة، والدتي أنجبت ستة: ولدين وأربع بنات، احد الولدين سليمان شقيقي مات شهيدا وهو جندي في جيش التحرير الجزائري سنة 1959 ، وبنتين شقيقتين لي أرملتا شهيدين إحداهما ترك لها الشهيد سبعة والثانية ترك لها خمسة، واكتسبت شرف رعاية قائمة طويلة من أرامل وأيتام الشهداء بعد الاستقلال.
سنوات الثورة الأولى الثلاث:
يدور نقاش حول دور جمعية العلماء المسلمين الجزائريين في الثورة، وأنا أتكلم بلا عقدة ، حيث أتمتع بصفتين: تلميذ في مدارس ومعهد عبد الحميد بن باديس بقسنطينة التابعة لجمعية العلماء، ومبعوث في أول بعثة طلابية للقاهرة من الجمعية سنة 1952 ؛ ومناضل في حزب الشعب الجزائري منذ 1948 . جمعية العلماء اضطرت للابتعاد عن الساسة (المتشددين)، ولو لم تفعل ذلك لأوقف نشاطها ولكان في ذلك خسارة للشعب الجزائري. لكن عندما كنا طلبة بمعهد عبد الحميد بن باديس بقسنطينة الذي تأسس سنة 1947 كنا نتلقى تشجيعا للانضمام لحزب الشعب من مدير المعهد الشيخ الشهيد العربي التبسي، ومن بعض الأساتذة مثل عبد القادر الياجوري، وعبد المجيد حيرش. وهذا يدل على أن جمعية العلماء في الوقت الذي اضطرت فيه لربط علاقة مع حزب البيان، يشجع بعض شيوخها الطلبة على الانضمام لحزب الشعب. وكانت نتيجة هذا التعقل أن بقيت تعمل للحفاظ على اللغة العربية وعلى الإسلام صافيا من شوائب الشعوذة، فتركت للجزائر المستقلة أربعين ألف تلميذ وتلميذة خريجي مدارس الجمعية بنت عليهم الجزائر سياسة تعريب التعليم.
واندلعت الثورة وكان الذي فجرها شباب حزب الشعب، لكن جيش التحرير الوطني تكون في السنوات الثلاث الأولى للثورة من عنصرين : جنود فلاحين أميين، وإطارات لهم من طلاب العربية من محفِّظي القرآن ، وتلاميذ الزوايا، وخريجي الزيتونة، وعلى رأسهم تلاميذ مدارس جمعية العلماء ومعهد عبد الحميد بن باديس. فمن يحفظ حزب (عمّ) يجند الجماهير أفضل من حامل شهادة الدكتوراه من جامعة السربون. وأذكر بعض إطارات جيش التحرير في الولاية الأولى من معهد ومدارس جمعية العلماء الذين تحضرهم الذاكرة، والذين سجل بعضهم الكتاب التوثيقي الجيد الصادر بباتنة (دور جمعية العلماء في منطقة الأوراس) في 2007 ، وهم:
الهاشمي حمادي. علي عليّة. والوردي قتال. بلقاسم عالية. محمد علاق. زرعي الطاهر. زرايقية الصادق. نوار جدواني. محمد الربعي يونس. محمود فتني. بوازدية التومي. الطاهر حواس. الطاهر زعروري. حسين مخازنية. عبد الكريم عباس. أفراوي أحمد، محمود الواعي، ابن عبيد مصطفى، صالح دوادي، وزاني بلقاسم، بخوش محمد، الصديق بخوش، غنام عبد الحميد، طويل الطاهر، دوادي الجودي، السعيد عبادو، درياس يوسف، درياس أحمد، بوكريشة الصادق، قالة عبد المجيد، مسعود بوبكر، وزاري لخضر، معاش أحمد، عزوي محمد الطاهر، سعاده محمد، شعباني محمد، الهادي درواز، الصادق برباري، محمد خروبي، علي سواعي، عطية عبد الرحمن، محمد درفوف، ملوح محمد، فرحات نجاحي، حمودة عاشوري، معاش عبد الحميد، بودوح السبتي، منصوري محمد، إبراهيم موهودي، محمد الصالح يحياوي، هلايلي محمد، تاغليسية محمد، عثمان سعدي، محمدي عبد الحميد، العيد مسعود، فيلالي مختار، العربي مومن. هذا القليل من الذي حفظتهم الذاكرة وساعدني على جمعه الأخوين مختار فيلالي بباتنة وعلي عليّه في تبسة. معظم هؤلاء كانوا إطارات مباشرة في جيش التحرير . إن عُملة الحركة الوطنية لها وجهان: حزب الشعب ، وجمعية العلماء، الأول يمثل فبضة [دَبزة] الثورة، والثانية تمثل ضمير الثورة...
وغيرهم. وليس صدفة أن يأتي محمد بوخروبة [الهواري بومدين] تلميذ مدرسة الكتانية بقسنطينة على رأس جيش التحرير الوطني. ومحمد الشبوكي يقول في هذا العنى:
يا أبا النهضة يا رائدهــــا فزت من دنياك بالذكر الحميــــد
فهنيئا يا ابن باديس الــــذي حرر الأفكار من قيد الجمــــود
وأعدَّ الشعب للثورة حقــــا فاستعد الشعب بالجيش العتيـــد
وبعد عشرين شهرا من اندلاع الثورة أعلن طلبة المدارس الفرنسية إضرابهم عن التعليم. وكونوا إدارة الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية باللغة الفرنسية في القاهرة، كنواة لإدارة الجزائر المستقلة، وتوّجوا ذلك بتوقيع اتفاقية إيفيان بنص واحد مثل الوفدين وهو النص الفرنسي. ودخلوا الجزائر وجلس على الإدارة العامة للوظيف العمومي قطب من أقطاب حزب الشعب الجزائري هو عبد الرحمن كيوان، ولمدة أربع عشرة سنة فرنس فيها إدارة الدولة الجزائرية وهمش اللغة العربية، وخان بذلك حزب الشعب نفسه. محمد الصديق بن يحيى العضو المفاوض في اتفاقيات إيفيان، وقع سنة 1981 بصفته وزير خارجية الجزائر (اتفاقية الجزائر) المشهورة التي حُرر بموجبها الديبلوماسيون الأمريكان المعتقلون بسفارة أمريكا بطهران، صيغت هذه الاتفاقية الدولية الهامة والغريبة بثلاث لغات: الإنجليزية ومثلت الوفد الأمريكي، والفارسية ومثلت الوفد الإيراني، والفرنسية ومثلت الوفد الجزائري... وأحتفظ بمقال كتبه الصحفي الفرنسي بروشنيني، مراسل صحيفة الفيغارو الفرنسية بنيويورك، يعبر فيه عن سعادته لأن هذه الاتفاقية التي صارت تدرس في كليات حقوق العالم حررت باللغة الفرنسية وتسببت في تأخير توقيعها 24 ساعة. وقد أثرت هذه المسألة في اجتماع اللجنة المركزية لحزب جبهة التحرير الوطني ، ولمت بن يحيى فما كان منه إلا أن ضرب جبهته بيده وقال: "نعم، لم أنتبه لهذا الحطأ". وعند انتهاء للاجتماع حاورته وقلت له: "لا يشك أي واحد في وطنيتكم لكن أنتم واقعون تحت مخدر اللغة الفرنسية" ، فوافقني ..
والمقالان المشار إليهما في بداية هذا المقال يتعرضان لانحراف الثورة بعد اختطاف طائرة الزعماء الأربعة. وتأثير ذلك على المجاهدين. وسوف أتعرض لروعة الثورة قبل الانحراف بها في سنواتها الثلاث الأولى، معتمدا على أقوال الضباط الفرنسيين، والفضل ما شهدت به الأعداء.
المعارك الأولى:
لي معرفة بمعارك الولاية الأولى وبخاصة ناحية خنشلة ـ تبسة، أستمدها من مذكرات الرائد عثمان سعدي بلحاج، ـ وهو غيري أنا ـ الصادرة سنة 2000 ، فقد شارك في خمس عشرة معركة كبرى منها:
ـ هجوم أكس الحمامات: 22/05/1955 : 25 مجاهدا يهاجمون القاعدة العسكرية بأكس، الهجوم مباغت، قنلوا حوالي 45 جنديا فرنسيا، وغنموا ثماني بنادق وكمية من الذخائر، قاد الهجوم عفيف، دام ربع ساعة قام المجاهدون بقصف المحول الكهربائي وقطع الكهرباء عن القرية وعلى القاعدة، ولم يصب أي مجاهد بأذى.
ـ معركة عين الزرقاء: 25 يوليو 1955، شارك فيها 200 مجاهد، أسفرت عن قتل العشرات من العدو وغنم 150 بندقية. والتي قال فيها الزجال:
يوم الزرڤه
لكماين عالرصفة ترقا تلاڤو في خنڤه
والمدفع هدّ الكيفان
معركة أم الكماكم: 29 يوليو 1955 . شارك فيها 300 مجاهد، قتل بها عدد من المجاهدين منهم البغدادي التكوكي، وبترت ذراع الأزهر البلعيساوي بصلية رشاش قال فيه الشاعر الجندي:
لزهر تقمـشْ لبْياسه بالحب تـرشْ
ضربوه دهشْ من ذرعو مقسوم شطارْ
حزب الثوار الله ينصر حزب الثوار
أسقط المجاهدون طائرة عمودية تحمل ثلاثين عسكريا قتلوا جميعا، كما قتل العديد من جنود العدو الذي اضطر للانسحاب مع المغرب، كانت خسائر المجاهدين خمسين قتبلا.
ـ معركة بورملي: أغسطس 1955 في الأراضي التونسية، وكان شريط الحدود على الجانب التونسي يقع ضمن عمليات الولاية الأولى. وهي عبارة عن كمين نصبه المجاهدون لقوة فرنسية دخلت الجبل بحثا عن المجاهدين، كان يقود المعركة الطيب لاندوشين، وأول هجوم سقط خمسة عشر عسكريا غنم المجاهدون سلاحهم ووزعوه على جنود متطوعين جدد كانوا بلا سلاح. ثم دارت المعركة قتل فيها العديد من الأعداء الذين اضطروا للانسحاب مع اقتراب المغرب. وكانت حصيلة المعركة أن غنم المجاهدون ستين بندقية وحوالي مائة قنبلة يدوية وكمية هائلة من الذخائر. واستشهد ثلاثة مجاهدين.
ـ معركة الجرف: وكلمة الجُرف في العربية تعني شِقُّ الوادي إذا حفر الماء في أسفله، وهو كذلك في الطبيعة. الجرف معركة جرت في سبتمبر 1955 حشد فيها الفرنسيون أربعين ألف جندي بأسطول جوي وآليات ضخم، ناوين حصار الثوار والقضاء عليهم، لكنّ المجاهدين كسروا الحصار وقتلوا وغنموا أسلحة. وتعتبر المعركة أعظم معركة خاضها جيش التحرير. وقد اعترف الضباط الفرنسيون بضراوة المعركة وبصلابة المجاهدين. فكتب الجنرال بوفو قائد الفرقة الثانية للمشاة، مبررا فشل هجومهم، فقال في تقرير رفعه للقيادة الفرنسية: "تجابه قواتنا أعنف عمليات هجومية تصدت لها عمليات التمشيط والتطهير الواسعة الموجهة ضد الأوراس النمامشة، والشمال القسنطيني، وقد اعترضتها صحراء صلدة تمثلت في قلعة الجرف، وهو جبل قاحل مجدب، والجنود المرابطون به أشداء كصخوره لا تتفتت ولا تتزعزع، وكشف الاستطلاع الجوي أن منطقة العمليات اتسعت بعكس
ما كنا نتوقع، وعكس ما خططنا، مما عرّض قواتنا لصعوبات كبيرة...".
وقد تغنى بها الزجال فقال
يوم الجرف عنيت عليه بلا عرف
كي ذْهب الكَرْف رام فازوا فيها لحرار
غنى الشاعر المعركة بدون المشاركة بها، استعمل جملة (ذهب الكرف) للتعبير على ما وصلت إليه المعركة من أهوال : الكرف هو شمّ كلب الصيد لأثر الطريدة، فعندما يضيّع الكلب الأثر يصير في حالة هستيرية غريبة.
معركة سيدي عيش: بالأراضي التونسية مارس 1956 وهي كمين محكم نصبه المجاهدون، حيث فاجأوا العدو فسقط منه العديد. وكانت راعية تونسية ترعى غنما في قلب المعركة فما أن شاهدت المجاهدين يسقطون الفرنسيين حتى زغردت فزادت الزغرودة من حماس المجاهدين. قتل العديد من الفرنسيين، واستشهد ثلاثة مجاهدين.
معركة أرڤو: يونيو 1956 ، دامت ثلاثة أيام، خسر العدو الكثير ، وأسقط المجاهدون أربع طائرات، التي أصيب فيها الضابط المظلي المشهور العقيد بيجار .
قال الزجال فيما بعد في جبل أرڤو:
أرڤو مْضبّبْ وحزيــنْ على جال الوردي والزين
راو لازهر طارتلو العين العيد مڤسوم عالِّميــن
معركة الزرداب: سنة 1956 التي أسقطت بها طائرة
معركة نوال : نوفمبر 1956 على الجبل الذي يشرف على مدينة تبسة، كانت معركة ضارية، فكر العدو في إخلاء المدينة، وتكبد العدو خسائر ، وسقط العديد من المجاهدين شهداء، وسقطت أربع طائرات.
وصف الضباط الفرنسيين للمعارك:
ـ معركة الجديدة: يونيو 1956 ، التي كان الجيش الفرنسي بها بقيادة ثلاثة جنرالات والعقيد بيجار، وقادها من طرف المجاهدين عباس لغرور. كان حصارا محكما من طرف العدو، كان عدد المجاهدين 75 جنديا حوصروا من طرف قوات كبيرة بينها فيلق العقيد بيجار المشهور.
ولنترك العقيد بيجار يصف المعركة .في كتابه: من أجل قطعة صغيرة من المجد
parcelle de gloire, Plon 1975 : Pour une Bigeard :
يقول: "عندما وصلني الأمر وأنا بمدينة عنابة أن أتحرك بفيلقي إلى جبال النمامشة، جمعت جنودي وقلت لهم: إفهموني جيدا: إنه في الجنوب في النمامشة هذه، يكون من الصعب علينا أن نلعب دور الأبطال، في مواجهة متمرد يُقبل بل ويبحث عن المواجهة وعن المعركة، والنمامشة المشهورة المعتبرة، قلب المتمردين، وموضع رهبة الشرق القسنطيني، المتواجدة في منطقة ذات جبال مسننة، وعارية من الغابات، وذات هضاب مرتفعة بصخورها ووهادها، (أبواب جهنم) كما قال عنها الجنرال فانوكسام Vanuxem ، جرداء ، صعبة مقطوعة بوديان عميقة، مملوءة بالمغارات والصخور، حيث لا أحد يتشجع على الاحتكاك بالمتمردين المتخندقين في كهوف هذه المنطقة الرهيبة". ويصف تنقل فيلقه إلى وادي الجديدة حيث المعركة سيرا على الأقدام، حيث يحتاج كل جندي إلى خمسة لترات من الماء يشربها كلما سار كيلومترين، تنقل له بواسطة الطائرات العمودية، وذلك حتى يُباغب المتمردون، يقول: "ووصلنا يوم 9 يونيو 1956 إلى منطقة الوادي ليلا فنمنا، وفي الساعة 23 سمعت صراخ إنذار، الفلاقة يهاجموننا، وهم كثيرون، مسلحون جيدا، سمعناهم يثرثرون، كما سمعنا صليات من مدفع رشاش تصفر، الظلام كان دامسا لا نرى شيئا، فأصدرت أمري : لاتتحركوا، ابقوا في أماكنكم، تجنبوا مفاجأة العدو، دام الهجوم ساعة". صفحات: 257 ـ 259 .
ويروي المجاهد عثمان سعدي بلحاج نائب عباس لغرور في هذه المعركة في مذكراته هذا الهجوم كما يلي: "أصدر عباس أمره لي على الساعة السادسة مساء، مهمتنا كانت تنحصر في مباغتة معسكر العدو وجنوده نيام، قال لي: اختر عشرة رجال معك وأنت الحادي عشر، اخترهم كما تريد، خذوا معكم قنابل يدوية ورشاشة واحدة ونفذوا عملية اقتحام فدائي ليلي على مخيم العدو. ينبغي أن تحدثوا هزة نفسية تجعله يدخل المعركة غدا معنا وهو مهزوز الأعصاب". أعطيت الرشاشة لعبد الحفيظ السوفي رحمه الله فرفضها وهو يقول في إصرار عجيب انعكس على ملامح وجهه: "سآتي هذه الليلة ببندقيتي من أولئك الذين ولدتهم أمهاتهم في القطن سأستعمل القنابل اليدوية، لن أحمل الرشاشة يا عثمان ابحث عن غيري"، وكان بلا بندقية، له صوت جميل يحسن الغناء.. وتسللنا ، كان البرد قارصا، كان مخيم العدو غربي مواقعنا، يفصلنا عنه حوالي ألفي متر، قال لي عباس: "لن أتدخل إلا إذا تأكدت أنكم مضرورون". حمل كل واحد منا قنبلتين يدويتين ، وكان الجنود الأعداء قد نصبوا خيامهم في حقل من الحلفاء، وتقدمنا، كان الظلام دامسا، والسماء ملبدة بغيوم سوداء راحت تسفي علينا رذاذا من المطر، كان يتقدم إلى جانبي عبد الحفيظ السوفي وفجأة شعرت بعبد الحفيظ يدفعني بشدة، لقد لمح وجود خيمة فدفعني لأقفز من فوقها لكن القدر يشاء أن أسقط عليها والجندي الفرنسي نائم فيها، وشعرت بعدوي يتحرك تحتي، فقمت بلف الخيمة الفردية عليه وغممته فيها، وبدأ قذف القنابل وراح محمد أمزيان بطلق رشاشته واشتعلت المعركة، استطاع الجندي العدو أن يتغلب علي من تحت الخيمة، فقام بضربي بمرفقه في صدري، فتألمت ألما شديدا وشعرت أن نفَسي قد انقطع وكان هذا الجندي رامي مدفع رشاش ثقيل من نوع 24 ، دخلت معه في صراع عضلي فأدى ذلك إلى اصطدام رأسه بعقب مدفعه، فشعرت بيديه ترتخيان، وفي هذه اللحظة وصل محمد أمزيان فصاح مناديا فأجبته: "إنني في صراع مع عسكري أسرع فاقتله، وسحبني محمد أمزيان من الخلف ووضع الرشاشة في بطن العدو وأطلق. لمحت المدفع الرشاش عند قدمي فحملته ، وشاهدت رفاقي يحمل كل واحد منهم عدة بنادق وكميات من الذخيرة.. وبدأ في هذه اللحظة عباس يطلق الرصاص، وعدنا غانمين سالمين ، أما الأعداء فقد انتشرت بينهم فوضى كبيرة من هول المفاجأة، وكانت غنائمنا أربعين بندقية ومدفعا رشاشا من نوع 24 بذخائرها، وجرح لنا جندي واحد...'. ولقد كان توافق رواية عثمان ورواية بيجار غريبا، فقد كان المجاهد عثمان بسيطا في تعليمه يحفظ سورا من القرآن، أملَى عليّ مذكراتِه سنة 1987 بحضور الشاعر الكبير المرحوم محمد الشبوكي، وقمت أنا بتحريرها، وقد اطلعت فيما بعد على كتاب بيجار وقارنت بين الروايتين.. الرائد عثمان له ذاكرة فيل بتذكر الزمن بأشهره وأيامه، والأشخاص، والجبال والوهاد والوديان ويسميها قطعة قطعة..
ويستمر العقيد بيجار في وصف معركة الجديدة فيقول: "في يوم 10 يونيو الساعة الثالثة صباحا، تحركنا نحو الشرق محاولين تجنب كمائن العدو، حاصرنا الوادي من جميع الجهات. الساعة السابعة طائراتنا تحلق، حددت لها مكاننا، نزلت عمودية لنقل الجرحى ـ ويقصد جرحى الليل ـ وبدأت كتيبتان تتقدمان نحو عمق الوادي، وفجأة فتح العدو النار بعنف، على قواتنا الزاحفة وعلى الطائرات، وتكشَّف في المرتفعات دفاع قوي، كان عدد الأعداء مائتي متمرد (75 فقط) مسلحين تسليحا جيدا ولهم ذخائر جيدة، كامنون في غيران.. ويستمر الوضع هكذا طوال اليوم تحت شمس محرقة، وطلبت تكثيف الطيران والمورتييه 81 ، لا أريد تحطيم مائة من رجالي.. الساعة 17 حضر بعمودية الجنرال نواري Noiret من قسنطينة ونزل في مكان قيادتي. الساعة.30 17 حضر الجنرال فانوكسيم وأخبرني أنه أمر بإنزال كتيبة من اللفيف الأجنبي بالجو لمساعدتنا... وسقط الليل فقضيناه طويلا في مواقعنا في أعلى الوادي أو في عمقه، وتقدمتْ بالفعل مجموعة من المتمردين تحت قيادة رائعة وبانضباط هائل وبشجاعة عالية وهاجمونا بالعمق، ورغم خسائرهم تمكن عدد كبير منهم من المرور"..
يتبع
ولنتابع رواية الرائد عثمان: "وكثرت الخسائر بيننا في المساء، لكن من يحصي هذه الخسائر؟ كنا موزعين على جانبي الوادي ولا اتصال بين بعضنا البعض. وعلى الساعة السابعة مساء أرسل لي عباس جنديا يطلبني، فتوجهت له قافزا من صخرة لصخرة، والأعداء يرمونني والظلام بدأ يساعدني على التخفي. وصلت لعباس فقال لي: "تعب المجاهدون يا عثمان، لحقت بهم خسائر كبيرة، لا بد أن نغادر مكان المعركة، لتخرج مجموعتك من الجانب الذي تتمركز فيه، انظر ذاك المكان هو الوحيد الذي يمكن أن تنسحب منه"... عدت لموقعي وأمرت الجنود بالانسحاب، انضم لي ثلاثون جنديا، سقط الليل توقف القتال، انحدرنا إلى باطن الوادي، ورحنا نتبع مجراه مع اتجاه الماء، اعترضتنا بركة ماء فتجنبناها قليلا، وفجأة تطلق علينا نيران غزيرة، كانت عبارة عن صليات رشاشات، كان العدو قد نصب لنا كمينا حول هذه البركة، بعد أن توقع خروجنا منها كمنفذ وحيد لانسحابنا، كنت أشاهد الجنود يتساقطون على يميني وعلى يساري، شاهدت عبيد عبد السلام وهو يسقط بمدفعه الرشاش في البركة. كان كمينا محكما، نجا منا الثلث واستشهد عشرون. وتقدمنا وانهمر علينا الرصاص، شاهدت كهلا مزق الرصاص بطنه فبرزت مصارينه فاحتضنها بيده وسار إلى جانبي. يبدو أن قناصي العدو يطلقون علينا النار من عدة جوانب. وصاح جندي : عرفت المنطقة سأقودكم على مكان نخرج منه، ونفذ من تبقى منا. ووجدنا أنفسنا في مقر قيادة عباس لغرور بالجديدة، كان عبارة عن غار تحت تجويف صخري صاعد كالجدار، لاحظت شجرة نابتة في شق التجويف. كان الكهل المصاب يتبعنا بصبر غريب ويده تحتضن جوفه الممزق، ونزعت شاش عمامتي من على رأسي وربطت بطرفه حجرا مستطيلا على شكل عصا ورميتها فشبكت في أغصان الشجرة وشددتها لأتأكد من متانة اشتباكها ثم تسلقت بالشاش إلى أن وصلت الشجرة، وكان نفخ الريح يغطي على الضجة التي كنا نحدثها، تسلقت للأعلى وأطللت فوقع بصري على فسحة بها خيمة عسكري عدو فردية في محاذاتها خندقا صغيرا صخريا صنعته مجاري مياه الأمطار عبر مئات السنين وقررت أن يكون مسرب نجاتنا. عدت ونزلت للشجيرة رميت طرف الشاش للشاب فدفع الكهل الجريح أولا إلى أن أمسكت بأطراف أصابعه وسحبته كان يتألم ويكظم ألمه في صبر غريب.. وطللنا على رأس المنحدر، كنا نزحف بالخندق وشخير العدو النائم يهز المنطقة مع تضخمه من صدى الوادي. لكن الكهل لم يستطع الزحف فتقدم واقفا واعيا لما بفعل إن اكتشفه العدو أرداه وقصد أن يكون بعيدا عنا حتى لا نصاب، وتقدمنا حوالي خمسمائة متر. وفجأة ظهرت فوق رؤوسنا طائرة عمودية من نوع بانان كبيرة الحجم لها ثلاث مراوح تسفّ على وجه الأرض على مسافة قليلة منا، ودوى الرصاص فأصاب الطائرة التي هوت أمامنا والنيران تأكلها. ثم لمحنا طائرتين مقاتلتين تغيران على الوادي أمامنا وتطلق رشاشاتها فقد طلع النهار واستأنف العدو القتال، وفي لمح البصر شاهدنا طائرة أخرى تصاب وتهوي ملتهبة في الوادي. وسألت نفسي: هل صارت البرَكات تسقط الطائرات؟. وفجأة يوجه لنا نداء: من أنتم، فقد وصلت نجدة من عجول عجول من تسعة جنود بأسلحة جيدة ففاجأوا الطائرات التي كانت تمرح فأسقطوا منها، وتصور الفرنسيون أن نجدة ضخمة من المجاهدين وصلت فانسحبوا من الميدان. وحضر عباس مع أربعة جنوده، وبقي من مجموعتي ثلاثة... وانسحبنا بعد أن كلفنا فلاحا حضر ببغلته نقْل الجريح ومعالجته في بيته. وبعد أربعة أيام قال لي عباس خذ معك أربعة جنود واتجهوا إلى مكان المعركة، ادفنوا إخوانكم الشهداء، ادرس مكان المعركة وعد لي بتقربر. كانت الأرض صخرية لا تُحفر كنا نسحب الشهيد ونضعه بين حجرين نابتين ثم نحيطه بالحجارة، ونضع فوقها أغصان الأشجار، ونضع فوق ذلك التراب والحجر... اتجهت لبركة الماء وسحبت منها عبيد عبد السلام ودفنته بيدي فقد غطاه الماء مع سلاحه، ولم يكشف مكانهما العدو، وقمنا بجمع كمية جيدة من السلاح والذخائر، وتغذينا مما جمعاناه من ماء وغذاء من الفرنسيين والمجاهدين، وكانت زمزميات الماء ملطخة بدماء الشهداء والفرنسيين معا، كما وجدنا كسرة في جيوب بعض الشهداء منضجة على رماد ساخن والمسماة باسم ملاّل.. وعدنا يحمل كل واحج منا ثلاث بنادق بذخائرها، كنا نحمل أثقالا تفوق طاقتنا، واستقبلنا عباس بالتهليل والتكبير وهو يصيح : الشهداء رحمهم الله ، الله معنا الدليل على ذلك عودتكم بخمس عشرة بندقية ورشاش، والتحق بنا مجاهدون انسحبوا سالمين، وهب الفلاحون فتطوع العديد منهم، وعدنا بعد أيام إلى وادي الجديدة بستين جنديا بفضل فلاحينا الذين لا ينضب مَعينهم، أطعمونا بعد جوع، وأراحونا بعد تعب، وجندوا ما عوض شهداءنا" ..
ويستمر العقيد بيجار فيقول: "كان يقود المتمردين عباس لغرور في انتظار سلاح آت من طرابلس (وهذا رد على الوزير ولد قابلية الذي زعم بكل نكران للجميل في تصريح له، أن العرب لم يقدموا شيئا للثورة الجزائرية، بينما يقول المؤرخ الفرنسي ش.أ. جوليان أن الصفة المميِّزة للجزائري الاعتراف بالجميل)، ويستمر بيجار فيقول : كانوا يقاتلون بشجاعة عالية، ويناورون بجودة عجيبة، قائد المتمردين الذي ناور بروعة فدافع عن مواقعه جيدا، وكان منظما جيدا، ولو لم نكن حذرين لتكبدنا خسائر كبيرة.." (صفحات 260 ـ 261 ).
حمل بيجار غرورُه أن يستمر بفيلقه المظلي ويتبع المجاهدين، فبعد خمسة أيام راقب بالطائرات وجود مجاهدين غربي الجديدة، فامر بالهجوم ولنقرأ في كتابه :
* تحركنا نحوهم يوم 16/06/1956 على الساعة الواحدة صباحا، ووُضع تحت تصرفي فيلق من اللفيف الأجنبي. لإكمال التطويق.
* الساعة الخامسة اللفيف يصطدم ببعض الفلاقة، الساعة السادسة حطت الطائرات العمودية في قيادتي على الموقع 1280 ... ظهرت دورية من طائرات 2T6 تغير وتقذف وفجأة تصاب إحداها فتسقط محترقة... الساعة ,20 12 نقيب اللفيف يخبرني بأنه رغم قصفنا فإن الفلاقة لازمون مواقعهم ويطلقون من كل الأسلحة وأن الاقتحام صار مستحيلا... طرت في نفس اللحظة بعمودية حطت بي قرب وحدة اللفيف، أمرت صائحا بالهجوم.. ولم أعط أمرا آخر فقد لفحني سوط كبير في صدري، خرج الدم من فمي ، سقطت.. رأسي في الرمال الملتهبة، لقد نفذت رصاصة فوق القلب بسنتمتر واحد وخرجت من الظهر..استنشقت الهواء حاولت الوقوف أنا واع لكن في وعي ثانوي، وبحذر شديد حملت للعمودية التي أقلعت وسط صليات الرشاشات إلى مطار تبسة.." ، ونقل لقسنطينة ثم لباريس فالإصابة كانت خطيرة.
من كتاب (إسناد ناري على واد هلال المغامرة المعاشة، للطيار بيير كلوسترمان
P.Clostermann . vecue Appui-Feu sur L’oued Hallail l’aventure )
Flammarion – Paris 1960 )
يعتبر هذا الكتاب من أهم الكتب التي صدرت تصف حرب الجزائر ويخاصة على الأوراس النمامشة. مؤلفه طيار حارب بالحرب العالمية الثانية في سماء أوروبا، وبالفييتنام، يقول عنه الجنرال ديغول: "هو ضابط سام، طيار مطارد مؤثر حاصل على أوسمة لامعة.. تطوع وهو ضابط احتياط للخدمة في الجزائر في إطار عمليات [حفظ النظام]، كان دائما يتطوع لخوض أكثر المعارك خطورة، حيث كانت طائرته في عدة مرات تصاب بطلقات الخارجين على القانون".
عمل بالجزائر سنتي 1956 و 1957 ، ركز في معاركه على ترديد اسم المجاهد الكبير الأزهر شريّط وعلى مقر قيادته في شڤة اليهودي بواد هلال، ويسمي كتابه بهذا الوادي. يصف جبال النمامشة بإعجاب يشوبه خوف ورعب. يتبين أن المؤلف أديب له أسلوب شاعري، تحكمه مشاعر إنسانية تدفعه إلى أن يحترم ويقدر خصمه.. ويبدو من خلال تصدر كتابه بنص لألبير كامو أنه لا يؤمن بالحروب، ونص كامو: "يكفي أن تقود الحركة إلى الموت لكي تلمس نوعا من العظمة بالرجال: والتي تسمى العبث..".
ولنورد مقتطفات من الكتاب:
يقول: "يقدر الذين قتلوا من شباب الخدمة الوطنية الفرنسية في السنتين اللتين عملتُ فيهما بالجزائر بثلاثة عشر ألف (13000) شاب قتلوا في هذه العمليات العسكرية العقيمة، الغامضة، والغير المشجعة".[صفحة7 ]
يصف وصوله لمنطقة أوراس النمامشة فيقول: "كان الجنرال أوكسيفان Uxevent الواقف في ساحة المدينة الصغيرة خنشلة يقدم لنا نبذة عن عمليات الغد، كان دورفال [الاسم الحربي لكلوسترمان] يستمع بعناية، لأن واد هلال وشڤة اليهودي ـ مقر قيادة الأزهر شريط ـ كانت دائما أمرا عظيما يعبر عن حرب حقيقية وليس عمليات (الحفاظ على النظام) ، كان الجنرال ذو العينين المصنوعتين من الصلب، والشخصية الحديدية يقود منطقة أوراس النمامشة، فمنطقته هذه كانت دائما جهنمية، في مواجهة مجموعات الفلاقة الأكثر تنظيما، والأفضل تسلحا بالجزائر كلها، ففي أوراس النمامشة ولدت الثورة، وفيها اكتسبت صلابتها، إن التحدث عن التربيع والحصار التقليدي عبارة عن مسخرة مرة وسط هذه الطبيعة المرعبة، المشوية بشمس لا ترحم الفرق الآتية من فرنسا، في جبال النمامشة الوعول نمور.."
"حاولت قيادة أوراس النمامشة (الفرنسية) تفجير الدمّلة بواسطة ثلاث أو أربع عمليات واسعة، فشلت كلها بمجرد سقوط الليل مع تكبدها لخسائر جسيمة. لا تنفع المدفعية ضد هذه المتاريس الطبيعة، التجاويف تحمي الخارجين على القانون من قذائف المورتييه. سكبت الطائرات مئات الأطنان من القنابل ذات الوزن الثقيل، المدرعات لا تفيد لأنها لا تستطيع النزول إلى عمق الوادي، لقد جربنا كل الوسائل دون جدوى. إن أفضل قناصيهم المترصدين برشاشاتهم صاروا متخصصين بنجاح في التصدي لطائراتنا".
الإعجاب بواد هلال لم يقتصر على الرجال ، بل شمل النساء، فزوجة الجنرال أوكسيفان Uxevent تطلب من كلوسترمان ان يأخذها بطائرته لرؤية واد هلال المشهور التي كثيرا ما سمعت زوجها يهذي به، ويلبي لها رغبتها خفية على زوجها..
يقول واصفا واد هلال: "كانت جلالة شعاب واد هلال تقطع نفس دورفال [الاسم الحربي له] ، فلا يوجد مكان حلّق فوقه يشبه هذه الطبيعة التي كوتها الشمس، وعذبتها الرياح، ونحتها الطوفان، إنه لم يشاهد طبيعة جهنمية كهذه: فعلى امتداد القرون شق الوادي بوحشية في جسد الصخر حنجرة وعرة عميقة بثمانمائة متر بواسطة دوران وعودة دوران. وعلى بعد عشرة كيلو مترات شمالي الجرف كسر كوعُ تدفق المياه الصخرَ فرمى على الضفة كتلا جبارة من الصخر أصغرها يساوي حجم قوس النصر بباريس، وفي الأعماق شق التيار الجارف ممرات متتالية وأروقة ضخمة تضيع كلها في صلب [بوجويب]. إنها حصن مشاد بعنف، مرصوص بعضها على بعض، مخترقة بأبرج مراقبة، ومسننة بمتاريس طبيعة، ومنخورة بستائر جدارية. إنها هذيان عسكرية دفاعية بزواياها المنيعة، بفتحات رماة السهام، وبأخاديدها المنحدرة المزروعة بالحصى الأبيض. كل ممر عبارة عن ترسانة تأوي كل شيء: السلاح والذخائر، المغارات التي بها مهاجع الجنود، وقاعات التمريض، وقطعان الماعز والأغنام، أما الماء فهو متوفر في سائر المواسم..تشاهد يوميا طائرات الاستكشاف دخان المشوي الذي ينضجه الخارجون على القانون دون محاولة إخفائه.. إنها للفلاقة قلاع دائمة، وقواعد انطلاق للهجمات، ومركز اجتماع قادة الولايات، ومرسى راحة عمليات رجال الأزهر شريّط الذين يسيطرون على الدعامات المتاخمة للصحراء والممتدة من بير العاتر وحتى تبسّة..".[صفحات 170 ، 171 ، 173 ].
ويستمر الطيار كلوسترمان فيقول: "في هذه المرة (ويقصد معركة الجرف) وضعت القيادة العامة كل وزنها، فالقائد الكبير تنقل بنفسه من مدينة الجزائر إلى هنا. عمليا كل القوات المتوفرة في أوراس النمامشة، وتبسة، وأريس، ومن خنشلة إلى نڤرين هرعت في الليل للمحاصرة، جاءت سائر الطائرات العمودية من مطار سطيف وتلاغمة وحطت بالجرف، وعلى الساعة الثامنة صباحا آلاف مؤلفة مع مدفيتهم نصبوا في القمم المسيطرة على الوادي، وأعلنت حالة الطوارئ بتلاغمة وباتنة وتبسة من ميسترال ، وأسراب الإسناد الخفيفة، وB47 . دورفال [الاسم الحربي للطيار كلوسترمان] يعرف جيدا أن أي حركة من حركاته في الجو مراقبة من الفلاقة المخفيين..لكنهم على غير عادتهم لم تبدر منهم أية حركة حتى الآن، ولم يطلقوا طلقة واحدة حتى الساعة العاشرة.. وفجأة تنفجر المعركة: كلاك.. كلاك.. وخفض رأسه لاشعوريا، لقد ثقب زجاج قمرة الطيار ثقبين وتمزق المعدن.
ـ مونكوماندون ، أصبت من عدة أماكن..
ـ ألو، هنا الباز الأحمر، هنا ليو، لقد أصابني الأوباش، أنا داخل إلى تبسة.
سد هائل من المدفيعية يحاصر شڤة اليهودي حيث مقر قيادة اٍلأزهر شريّط ، يرتفع الغبار الذي تتخلله القذائف الملتهبة، هذا يكلف كثيرا دافعي الضرائب في فرنسا، ولا يضايق الفلاقة الذين هم الآن ينامون في قيلولتهم بملاجئهم الباردة ينتظرون الوقت المناسب للرد.. طائرة عمودية تخلي المصابين إلى المستشفى الميداني بالمزرعة..
أُسقط الملازم جوليان، حاولت عمودية التقاطه.. الغليان يعم شڤة اليهودي، لقد أصيبت لنا في ساعتين سبع طائرات [ويعلق المؤلف في الهامش فيقول: في 1957 تصاب لنا شهريا 50 طائرة، وفي شهر يناير 1958 أصيبت لنا 85 طائرة، وفي شهر فبراير 116 طائرة. وهذا تأكيد على أن المجاهدين لا يبالغون..]
وانطلقت نيران الفلاقة الذين كانوا ينتظرون منذ الفجر هذا الوقت وكانت نيرانا جهنمية..
في هذه اللحظة تفتت زجاج العمودية إلى ألف جزيء لتهوي كسهم ملتهب.. حاول الطيار النداء بالراديو ولكن الدم الكامن في حنجرته خنقه، حاول أن يبصق أو ينفخ ليسلّك منخريه، لكنه لم يستطع"
(صفحات : 181 ، 185 ، 186 ، 187 ، 190 ، 195، 197 ، 201 ,,)
ويصف الطيار كلوسترمان آخر طلعاته على جبال النمامشة في آخر الكتاب فيقول: "بعد الإقلاع من تبسة مر دورفال من خلال فجوة الدكّان، فوق قصعة ثليجان، وارتفع حتى ثلاثة آلاف متر ، باحثا عن هواء بارد.. تحت عينيه ترتفع جبال النمامشة على أعمدة متتالية.. هذه الكتلة الجبلية الرهيبة، ذات التضاريس المجوفة البارزة ، المزروعة بكثافة بشبكات من الأعشاب المعمرة الدموية اللون، وبتشابك انقصافاتها الجبلية المذهلة العجيبة التي تهز فكرة الإلمام بمسلسل الأبعاد... هذه الهضبة العظيمة الخالية من الترحيب والاستضافة، المطوي سطحها قليلا، المرتكزة على الكتلة الخضراء للأوراس، والمسيطرة جنوبا بارتفاع ألف متر قائمة عموديا على الصحراء الممتدة بحماداتها إلى ما بعد الأفق، والمنغمسة في ضباب جاف". ( صفحة 193 ) .
واد هلال الذي وصفه هذا الطيار الفرنسي وصفا رائعا، هو وادي يستقبل مياه الأمطار والثلوج النازلة على السفوح الجنوبية للأطلس الجنوبي الشرقي، ويصب في الصحراء فيغذي البحيرة الجوفية الألبية الجبارة. لا شبيه له بالعالم. في أمريكا يوجد شبيه له لكن أقل منه رهبة وغرابة وعظمة، وهو كانيون الكبير Grand Canyon كونت له ولاية لاس فيغاس مطارا تنطلق منه طائرات صغيرة محملة بالسواح يحلقون فوقه، وقد حلقت فوقه ووجدته أقل رهبة وروعة من واد هلال وفق وصف كلوسترمان والصور الجوية التي أخذها له. الدولة الجزائرية لم تهتم به، بل ولا يذكر حتى في دروس الجغرافيا. هذا الوادي هو الذي قال فيه ضابط فرنسي :"إذا قدر لدين بيان فو أن تقع في الجزائر فواد هلال هو مكانها"..
الخلاصة:
أولا: عرضنا كيف كانت الثورة في سنواتها الأولى تتكون من الفلاحين الأميين مؤطرين بطلاب اللغة العربية، كانت تسيّر باللغة العربية، ويتغنى بها شعراء الملحون الفلاحون بالعربية بعشرات الآلاف من الأبيات. ويشهد الطيار كلوسترمان أنه في السنتين اللتين عمل فيهما بولاية أوراس النمامشة، قتل من شباب الخدمة الوطنية خمسة عشر ألفا(15000 ) شاب، بالإضافة إلى قتلى المتطوعين من اللفيف الأجنبي وغيره.
ثانيا: بعد السنوات الثلاث الأولى حدث الانحراف: التحق المفرنسون بالحكومة المؤقتة بالقاهرة وكونوا إدارتها باللغة الفرنسية، وخرج قادة سيطروا على القيادة، وهرب ضباط من الجيش الفرنسي، وصارت الثورة فرنكفونية. وأعدم بتونس القائدان اللذان ذكرهما بيجار وكلوسترمان: الأزهر شريّط وعباس لغرور وغيرهم، وحلت الوحدات المقاتلة...
ثالثا: وأوقف القتال وتكونت الدولة الجزائرية الفرنكفونية بتهميش لغة البلاد والعباد، وتحول الاستقلال خاليا من المضمون، وباقتصاد تابع للاقتصاد الفرنسي، لأنه لم يحدثنا التاريخ أبدا أن تنمية اقتصادية واجتماعية ناجحة تحققت بلغة أجنبية. وأكرر ما سبق أن كتبته، بأن الفرن العشرين عرف أعظم ثورتين هما ثورة الجزائر وثورة الفييتنام. وأي ثورة لا تعتبر نفسها ناجحة إلا إذا حققت هدفين: تحرير الأرض وتحرير الذات. الثورة الفييتنامية حققتهما معا بتطيبق فتنمة فورية شاملة، وبالتخلص من اللغة الفرنسية تخلصا من سائر الرواسب التي تركتها في الذات الفييتنامية؛ أما الثورة الجزارية فقد أجهضها المفرنسون ، فحققت تحرير الأرض فقط، تاركة الذات مستعمرة فرنسية ، ولا زالت حتى الآن كذلك، وكوّن المفرنسيون المُجهضون لها الدولة الجزائرية الفركفونية التي أفلست اقتصاد الجزائر ، فمداخيل البتروت تمثل 97 % من مداخيل الجزائر. في سنة 2006 قمت بإحصائية فوجدت أن الفيينتام بالفتنمة صدر خارج المحروقات بما قيمته ستة وعشرون مليار دولار مواد صناعية وزراعية، بينما صدرت الجزائر بالفرْنسة خارج المحروقات، في السنة المذكورة بما قيمته ستمائة مليون دولار ثلثها خردة. علما بأن النفط الجزائري مآله النفاذ بعد ستة عشر سنة فقط ، وفقا لتقويم الخبراء الجزائريين الدوليين. وهكذا تترك الأجيال المقبلة الجزائرية للضياع.
رابعا: وكدليل على إفلاس الدولة الفرنكفونية، وبعد 47 سنة من الاستقلال، الماء الذي يشربه سكان العاصمة تسيّرة شركة فرنسية، ومطار الجزائر الدولي الجديد تسيره شركة رواسي الفرنسية ، فحري به أن يحمل اسم مطار شارل دوغول بدل مطار الهواري بومدين. والتوجه لتسليم السونيلغار ، والميترو الجزائري، وسكك الحديد ، والطريق السيار شرق غرب، وغيرها لشركات فرنسية، وتتحول بذلك جزائر المليون ونصف المليون شهيد إلى ما كانت عليه قبل 1962 لكن بنفقات جزائرية...